فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال بعض علماء الفلك في تفسير هذه الآية: {وَهِيَ دُخَانٌ}: أي: ذرات، أي: غازات أي: سديم. ثم تجاذبت كما يجتمع السحاب فصارت كتلة واحدة. مصداقًا لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء: 30]. أي: كتلة واحدة، فدارت ثم تقطعت، وتفصلت بالقوة الدافعة، فتكونت الأرض والسماوات، تصديقًا لقوله تعالى: {فَفَتَقْنَاهُمَا} أي: فصلناهما، فصارتا كرات من الماء في يومين، أي: ألفي سنة. لقوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]، وفي هذا الوقت كان عرشه على الماء. أي: كان ملكه وسلطانه على الماء، والله أعلم. انتهى والله أعلم.
{فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} قال القاشاني: أي: تعلق أمره وإرادته بإيجادهما، فوجدتا في الحال معًا. كالمأمور المطيع، إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع لم يلبث في امتثاله. وهو من باب التمثيل؛ إذ لا قول ثمة. انتهى.
وقال ابن جرير: أي: قال الله جل ثناؤه للسماء والأرض: جيئا بما خلقت فيكما. أما أنت يا سماء، فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس، والقمر، والنجوم. وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار، والثمار، والنبات، وتشققي عن الأنهار: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} أي: جئنا بما أحدثت فينا من خلقك، مستجيبين لأمرك، لا نعصي أمرك. انتهى. يعني أن إثبات المقاولة مع السماء والأرض من المجاز. إما بالاستعارة المكنية. كما تقول: نطقت الحال. فتجعل الحال كإنسان يتكلم في الدلالة، ثم يتخيل له النطق الذي هو لازم المشبه به، وينسب إليه. وإما بالاستعارة التمثيلية بأن شبه فيه حالة السماء والأرض التي بينهما وبين خالقهما، في إرادة تكوينهما وإيجادهما، بحالة أمير ذي جبروت له نفاذ في سلطانه، وإطاعة من تحت تصرفه من غير تردد.
وقد رد غير واحد قول من ذهب إلى أن في الجمادات تمييزًا ونطقًا على ظاهر أمثال هذه النصوص، منهم ابن حزم قال في الفِصل: وأما قوله تعالى: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} فقد علمنا بالضرورة والمشاهدة أن القول في اللغة التي نزل بها القرآن، إنما هو دفع آلات الكلام من أنابيب الصدر، والحلق، والحنك، واللسان، والشفتين، والأضراس، بهواء يصل إلى آذان السامع، فيفهم به مرادات القائل. فإذ لا شك في هذا، فلكل من لا لسان له، ولا شفتين، ولا أضراس، ولا حنك، ولا حلق، فلا يكون منه القول المعهود منا. هذا مما لا يشك فيه ذو عقل. فإذا هذا هكذا كما قلنا بالعيان، فكل قول ورد به نص ولفظ مخبر به عمن ليست هذه صفته، فإنه ليس هو القول المعهود عندنا. لكنه معنى آخر. فإذ هذا كما ذكرنا، فبالضرورة صح أن معنى قوله تعالى: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} إنما هو على نفاذ حكمه عز وجل وتصريفه لهما. انتهى.
وكذا الحال في: {أَتَيْنَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} فإنهما لما نزلا وهما من الجمادات- منزلة العقلاء، إذ أُمرا وخوطبا على طريق المكنية، أو التمثيلية، أثبت لهما ما هو من صفات العقلاء من الطوع والكره ترشيحًا. وهما مؤولان ب: طائع وكاره. لأن المصدر لا يقع حالًا بدون ذلك، ويجوز كونهما مفعولًا مطلقًا. وإنما قال: {طَائِعِينَ} بجمع المذكر السالم مع اختصاصه بالعقلاء الذكور. وكان مقتضى الظاهر طائعات، أو طائعتين نظرًا إلى الخطاب، والإجابة، والوصف بالطوع، والكره.
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} أي: أحكمهن بإزالة رخاوة الدخان. قال المهايمي ولم يجعل لمادتها يومًا؛ لأنها كمادة الأرض. فدخلت في يومها: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا} أي: ما أمر به فيها، ودبره من الملائكة، والخلق الذي فيها، وما لا يعلم: {وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} فإنها كالسقف المرفوع المزين بمصابيح معلقة به، ما يدعو إلى الاستدلال بها على قدرة صانعها وحكمته: {وَحِفْظًا} أي: من الشياطين أن تسترق أخبارها: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}.
{فَإِنْ أَعْرَضُوا} أي: عن هذا الاستدلال، وعن الإيمان بهذا العزيز الغالب على كل شيء، الذي اقتضى علمه ترتيب بعض الأمور: {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} لأنكم مثلهما في العناد، ومثل عاد في الاستكبار، ومثل ثمود في استحباب العمى على الهدى. قال ابن جرير: قد بينا فيما مضى أن معنى الصاعقة كل ما أفسده الشيء، وغيّره عن هيئته. وقيل في هذا الموضوع: عني بها وقعة من الله وعذاب.
{إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} قال الزمخشري: أي: أتوهم من كل جانب، واجتهدوا بهم، وأعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا العتو، والإعراض كما حكى الله تعالى عن الشيطان: {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [الأعراف: 17]، يعني لآتينهم من كل جهة، ولأعلمن فيهم كل حيلة، وتقول: استدرت بفلان من كل جانب، فلم يكن لي فيه حيلة.
وحاصله جعل الجهتين كناية عن جميع الجهات، علي ما عرف في مثله. والمراد بإتيانهم من جميع الجهات، بذل الوسع في دعوتهم على طريق الكناية، ويحتمل أن المعنى: جاءوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي، وما جرى فيه على الكفار، ومن جهة المستقبل، وما سيجري عليهم. فالمراد بما بين أيديهم الزمن الماضي، وبما خلفهم المستقبل. ويجوز فيه العكس، كما ذكر في آية الكرسي: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا} أي: إرسال رسول: {لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً} أي: من السماء بما تدعوننا إليه: {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أي: من عبادة الله وحده: {كَافِرُونَ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} أي: حتى نخاف عذابه، لو تركنا عبادته، أو عبدنا معه غيره.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أي: فيجب أن يحذر عقابه ويتقى عذابه: {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا} أي: التي هي أقوى الدلائل: {يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ} أي: لعتوهم بالقوة: {رِيحًا صَرْصَرًا} أي: شديدة الصوت في هبوبها: {فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} أي: مشؤومات عليهم: {لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ} أي: في الأخرى، كما لم ينصروا في الدنيا. تنبيه:
قال الرازي: استدل الأحكاميون من المنجمين بهذه الآية على أن بعض الأيام قد يكون نحسًا وبعضهًا قد يكون سعدًا؛ لأن النحس يقابله السعد، والكدر يقابله الصافي. ثم أطال الرازي في الجواب والإيراد. ولا يخفى أن السعد والنحس إنما هو أمر إضافي لا ذاتي. وإلا لكان اليوم الذي يراه المنجمون نحسًا، مشؤوم الطالع على كل ما أشرقت عليه الشمس، وكذا ما يرونه سعدًا، والواقع بخلاف ذلك؛ إذ اليوم النحس عند زيد، قد يكون سعدًا عند بكر. بل الساعة بل الدقيقة. فأين تلك الدعوى؟ والقرآن أتى على أسلوب العرب البديع. ومن لطائفهم تسمية وقت الشدة، والبؤس بالنحس، ومقابلها بالسعد. فالنحس نحس على صاحبه، والسعد سعد على صاحبه.
{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} أي: بيّنّا لهم سبيل الحق، وطريق الرشد، ونهيناهم أن يتبعوا الضلالة، وأمرناهم أن يقتفوا الهدى: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي: من الآثام، بكفرهم بالله.
{وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} أي: يخشون ربهم، ويخافون، وعيده. وذلك بالإيمان به وحده وتصديق رسله.
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي: يوم يجمع، لمزيد الفضيحة، بين الأولين والآخرين، أعداء الله المشركون والجاحدون، إلى النار فيجيء أولهم على أخرهم، ليتم إلزام الحجة عليهم بين جميعهم، فلا يبقى لهم مقال لهم لأنهم لا يزالون يجادلون عن أنفسهم.
{حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا} أي: فبالغوا في إنكار المخالفة: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ} أي: بأنهم سمعوا الحجج فأعرضوا عنها، وسمعوا الشبه فاتبعوها، وسمعوا الفواحش فاستحسنوها: {وَأَبْصَارُهُمْ} أي: بأنهم رأوا الآيات فلم يعتبروها، ورأوا القبائح فاختاروها: {وَجُلُودُهُمْ} أي: بأنهم باشروا المعاصي، فوصل أثرها إلى القوة اللامسة منهم، فيشهد كل عضو وجزء: {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ} أي: المدركة ألم العذاب الذي لا يدركه السمع والبصر: {لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} أي: بما يوجب إيلامكم: {قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ} أي: بهذه الشهادة: {الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} أي: أنطق كل شيء من الحيوان. فهو من العام الذي خصه العقل، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]، أي: كل شيء من المقدورات. هذا، على أن النطق على ظاهره وحقيقته.
وقيل المراد ظهور علامات على الأعضاء دالة على ما كانت متلبسة به في الدنيا، بتغير أشكالها ونحوه. مما يلهم الله من رآه أنه صدر عنه ذلك؛ لارتفاع الغطاء في الآخرة. فالنطق مجاز عن الدلالة. قال القاشاني: معنى: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ} أي: غيرت صور أعضائهم، وصورت أشكالها على هيئة الأعمال التي ارتكبوها، وبدلت جلودهم، وأبشارهم فتنطق بلسان الحال، وتدل بالأشكال على ما كانوا يعملون، ولنطقها بهذا اللسان قالت: {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} إذ لا يخلو شيء ما من النطق، ولكن الغافلين لا يفهمون. انتهى.
لكن قال الرازي: تفسير هذه الشهادة، بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء، دالة على صدور تلك الأعمال منهم، عدول عن الحقيقة إلى المجاز. والأصل عدمه.
ثم قال: وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البينة ليست شرطًا للحياة، ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة. فالله تعالى قادر على خلق العقل، والقدرة، والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء. والله أعلم. تنبيه:
قال الرازي: نقل عن ابن عباس أنه قال: المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج، وإنه من باب الكنايات كما قال: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] وأراد النكاح. وقال: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] و[المائدة: 6]، والمراد قضاء الحاجة. فتكون الآية وعيدًا شديدًا في الزنى. انتهى.
وقد أشار الإمام ابن الأثير في المثل السائر إلى ترجيح هذا المعنى. حيث ذكر هذه الآية في الترجيح الذي يقع بين معنيين، يدل عليهما لفظ واحد، يكون حقيقة في أحدهما، مجازًا في الآخر، وعبارته: الجلود هاهنا تفسر حقيقة ومجازًا. أما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقًا، وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة، وهذا هو المانع البلاغي الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة، لما فيه من لطف الكناية عن المكنى عنه.
وقد يسأل هاهنا في الترجيح بين الحقيقة والمجاز، عن غير الجانب البلاغي. ويقال: ما بيان هذا الترجيح؟ فيقال: طريقة لفظ الجلود عام، فلا يخلو إما أن يراد به الجلود مطلقًا، أو يراد به الجوارح التي هي أدوات الأعمال خاصة، ولا يجوز أن يراد به الجلود على الإطلاق، لأن شهادة غير الجوارح التي هي الفاعلة، شهادة باطلة؛ إذ هي شهادة غير شاهد. والشهادة هنا يراد بها الإقرار. فتقول اليد: أنا فعلت كذا وكذا. وتقول الرجل: أنا مشيت إلى كذا وكذا. وكذلك الجوارح الباقية تنطق مُقرّة بأعمالها. فترجح بهذا أن يكون المراد به شهادة الجوارح. وإذا أريد به الجوارح، فلا يخلو إما أن يراد به الكل أو البعض.
فإن أريد به الكل، دخل تحته السمع والبصر، ولم يكن لتخصيصهما بالذكر فائدة. وإن أريد به البعض، فهو بالفرج أخص منه بغيره من الجوارح؛ لأمرين:
أحدهما- أن الجوارح كلها قد ذكرت في القرآن الكريم شاهدة على صاحبها بالمعصية ما عدا الفرج. فكان حمل الجلد عليه أولى، ليستكمل ذكر الجميع.
الآخر- إنه ليس في الجوارح ما يكره التصريح بذكره إلا الفرج، فكنى عنه بالجلد؛ لأنه موضع يكره التصريح فيه بالمسمى على حقيقته.
فإن قيل: إن تخصيص السمع والبصر بالذكر، من باب التفصيل، كقوله تعالى: {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]. والنخل والرمان من الفاكهة. قلت في الجواب: هذا القول عليك لا لك؛ لأن النخل والرمان إنما ذكرا لتفضيلٍ لهما في الشكل، أو في الطعم، والفضيلة هاهنا في ذكر الشهادة، إنما هي تعظيم لأمر المعصية. وغير السمع والبصر أعظم في المعصية؛ لأن معصية السمع إنما تكون في سماع غيبة، أو في سماع صوت مزمار، أو وتر، أو ما جرى هذا المجرى. ومعصية البصر إنما تكون في النظر إلى محرم: وكلتا المعصيتين لا حدّ فيها. وأما المعاصي التي توجد من غير السمع والبصر، فأعظم؛ لأن معصية اليد توجب القطع، ومعصية الفرج توجب جلد مائة، أو الرجم. وهذا أعظم. فكان ينبغي أن تخص بالذكر دون السمع والبصر، وإذا ثبت فساد ما ذهبت إليه، فلم يكن المراد بالجلود إلا الفروج خاصة. انتهى كلام ابن الأثير.
وناقشه ابن أبي الحديد في الفلك الدائر بما محصله: أن حمل الجلد على الفرج إنما يتعين، إذا كان بين لفظتي الجلد، والفرج، أو معناهما مناسبة، ولا نجد مناسبة إلا أن يكون لأجل أن الجلد جزء من أجزاء ماهية الفرج. فعبر عن الكل بالبعض، وهو بعيد جدًا. انتهى.
وأقول: مقصود من أثر عنه إرادة الفروج بالجلود هو إرادة الفرد الأهم والأقوى؛ وذلك لأن الجلود تصدق على ما حواه الجسم من الأعضاء والعضلات التي تكتسب الجريمة، ولا يخفى أن أهمها بالعناية، وأولاها بالإرادة هو الفرج؛ لأن معصيتها تربى على الجميع، وقد عهد في مفسري السلف اقتصارهم في التأويل من العام على فرده الأهم. كقصرهم: {سَبِيْل اللَّهِ} على الجهاد، مع أن: {سَبِيْل اللَّهِ} يصدق على كل ما فيه خير وقربة، ونفع ومعونة، على الطاعة، إلا أن أهم الجميع هو جهاد الذين يصدون عن الحق. فذكر الجهاد لا ينفي غيره. وهذه فائدة ينبغي أن يحرص على فهمها كل من له عناية بالتفسير. فإنها من فوائده الجليلة، وينحل بها إشكالات ليست بالقليلة. والله الموفق.
وقوله تعالى: {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إما من تمام كلام الجلود، أو مستأنف من كلامه تعالى وعلى كل، فهو مقرر لما قبله، بأن القادر على الخلق أول مرة، قادر على إنطاق كل شيء.
{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} أي: وما كنتم تستترون عند فعلكم الفواحش والمنكرات، مخالفة أو كراهة أن يشهد عليكم ما ذكر. أي: ليس استتارهم للخوف مما ذكر، بل من الناس. ف {أنَ يَشْهَدَ} مفعول له، بتقدير مضاف، أو من أن يشهد، أو عن أن يشهد، أو أنه ضمن معنى الظن، فهو في محل نصب. وفي الآية تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق، أنه لا يمر عليه حال إلا وعليه رقيب، كما قال أبو نواس:
إِذَاْ مَاْ خَلَوْتَ الدَّهْرِ يَوْمًا فَلَاْ ** تَقُلْ خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيْبٌ

وَلَاْ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفُلُ سَاْعَةً ** وَلَاْ أَنَّ مَاْ يَخْفَىْ عَلَيْكَ يَغِيْبُ

{وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} أي: ما ظننتم أن الله يعلم فينطق الجوارح، ولكن ظننتم أنه لا يعلم كثيرًا، وهو ما علمتم خفية، فما استترتم عنها واجترأتم على المعاصي. وإذا كان: {أنَ يَشْهَدَ} مفعولًا له، فالمعنى ما استترتم بالحجب، لخيفة أن تشهد عليكم الجوارح، فلذا ما استترتم عنها، لكن لأجل ظنكم أن الله لا يعلم كثيرًا، فلذا سعيتم في الاستتار عن الخلق، لا عن الخالق، ولا عما تنطق به الجوارح.
{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} أي: أهلككم بالجراءة على مخالفته في الدنيا، ومجادلته في القيامة: {فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} أي: لأعمال النجاة، والدرجات في الآخرة.
{فَإِن يَصْبِرُوا} أي: على النار: {فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} أي: منزل ومسكن: {وَإِن يَسْتَعْتِبُوا} أي: يسألوا العتبى، وهي الرجعة إلى الذين يحبون: {فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} أي: المجابين إليه، فلا يخفف عنهم العذاب. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)} شهدت عليهم أجزاؤهم، ولم يكن في حسابهم أن الله سيُنْطِقها وهو الذي أنطق كلَّ شيء، ولم يَدُرْ بخَلدهم ما استقبهم من المصير الأليم.
{ذلكم ظنكم}: وكذا مَنْ قعد في وصف الأقوال، ووَسَمَ موضِعَه، وحَكَمَ لنفسه أنه مُقَدَّمُ بلده. فلا يُسْمَعُ منه إلا ببرهانٍ ودليلٍ من حاله، فإن خالف الحالُ قولَه فلا يُعتمد عليه بعد ذلك.
والظنُّ بالله إذا كان جميلًا فلعمري يُقَابَلُ بالتحقيق، أمَّا إذا كان نتيجةَ الغرورِ وغيرَ مأذونِ به في الشرع فإنه يُرْدِي صاحبه.
{فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)} فإن يصبروا على موضع الخسف فسينقلبون إلى النار، وإن يستعتبوا- فعلى ما قال- فما هم بمعتبين. اهـ.